2014-01-01

محمد المخزنجي .. أحصنة طروادة وحمير الأثير

محمد المخزنجي

فى عام 1870 ذهب إلى تركيا مغامر أمريكى ألمانى الأصل يُدعى «هنريخ شيلمان»، حصل من السلطان العثمانى على حق التنقيب عن طروادة التى خلبت أسطورتها لُبَّه حين قرأ الإلياذة فى شبابه، وأنفق آخر عشرين سنة من عمره وكل الثروة التى جمعها فى أيام حُمَّى التنقيب عن الذهب فى كاليفورنيا- على حفرياته التى أظهرت ما يُدعى أطلال أربع طروادات بعضها فوق بعض! كما عثرعلى ما زعم أنه كنز مجوهرات الأميرة الفاتنة «هيلين» التى كانت بذرة الفتنة فى الملحمة. المفارقة أن الرجل خبَّأ هذا الكنز عن العثمانيين حتى عرضته زوجته للصحافة، فأهداه لمتحف برلين!
الآن، وبعد مزيد من التنقيب، وصل عدد الطروادات المتراكبة بعضها فوق بعض إلى تسع، يُرجَّح أن واحدة منها كانت الموقع الحقيقى الذى ألهم شعراء الإغريق الشَّدْوَ بالأسطورة، وقد تعلمنا من التنقيب عن جذور الخيال البشرى أن كل أسطورة وراءها بذرة واقعية، وهذا ما أثبتته دراسات حديثة بينت أن هناك آثاراً لمدينة محصَّنة شيدتها قبيلة «فريجيه»، سليلة محاربى آسيا الوسطى، تقع على قمة هضبة «هاسارليك» المطلة على الجانب الآسيوى من مضيق الدردنيل الواصل بين بحر مرمرة وبحر إيجة المفتوح على البحر المتوسط، ومن موقعها الجغرافى يقوى الافتراض بأنها المكان الذى كان طروادة، والذى تركزعليه الصراع الإغريقى الطروادى، لا بسبب منافسات الآلهة وفتنة جمال الأميرة هيلين وتراجيديا موت البطلين هيكتور وأخيل كما تقول الأسطورة، ولكن للسيطرة على بحر إيجة والإطباق على الطرق الملاحية فى البحر المتوسط.
طبعاً تبدو الحقيقة جافة وبذيئة، إذا ما قورنت بتحليق الأسطورة ورفيفها، عن الحب والحرب وحصار طروادة الذى امتد لعشر سنوات، وعن الحصان الخشبى العملاق الذى خدع به الإغريق خصومهم، وخبأوا فيه عشرات وربما مئات من مقاتليهم المدججين بالسيوف والمعاول، وتركوه خارج أسوار الحصن وانسحبوا حتى انطلت الخدعة على الطرواديين الذين حسبوا الحصان رسالة من الآلهة التى أزاحت الحصار فأدخلوه إلى قلب مدينتهم، وسهروا يشربون ويرقصون فرحاً بالبشارة وانحدار العدو حتى انهدَّت قواهم وغلبهم النوم، وفى غيابة نومهم وتحت جُنح الظلام أظهر الحصان بركته الخادعة، فانسل من جوفه مقاتلو الإغريق، وأعطوا الإشارة إلى جيشهم المتوارى وفتحوا لجحافله أبواب الحصن فانتشرت تفتك بالنيام وأشباه النيام، تقتل وتحرق وتسبى وتُدمِّر الحصن الحصين!
تراجيديا تاريخية ألبسها خيال الشعر الملحمى ما ألبسها من ألوان تُزيغ البصر وتخلب الألباب، لكن علم النفس يعلمنا أن الأساطير والحكايات الخرافية والأحلام والأدب والفن تتكلم إلينا بلغة قوامها الرموز، إضافة للغة الأحاسيس والعواطف التى تفوق كل لغة، ومن هذه اللغة المرموزة والوجدانية، تتكون رسائل بالغة الأهمية للواقع والحاضر. وقد اكتشفت أننى- كما غيرى من الأدباء- لنا أساطيرنا بنت واقعنا، التى تنطوى على رسائل مهمة كثيراً ما نكون غير واعين بها تماماً ونحن نبدعها، ويحدث أن نُفاجأ نحن أنفسنا بهذه الرسائل تكشف عن محتواها أو بعضه فى ظروف معينة. وضمن «أساطيرى» واحدة طَفَت على سطح ذاكرتى بقوة هذه الأيام، فتذكرت نواتها الواقعية، وأهجس بأننى أرى خيطاً من الواقع يرتبط برسالتها!
فى بلدة «بطرة»، التابعة لمركز طلخا، والتى لا تبعد عن المنصورة بأكثر من خمسة عشر كيلومتراً، أُقيمت منذ عدة عقود محطة لتقوية البث الإذاعى، وتتلخص فكرة إقامة محطة التقوية الإذاعية فى إرسال موجات بعيدة المدى قوية، تحمل على متنها موجات البث الإذاعى قصيرة المدى التى وهنت بعد رحلتها قادمة من القاهرة، والغاية أن يتسع مجال البث الإذاعى ليصل إلى حدودنا الشمالية الشرقية وما وراءها، وقد سمَّى أبناء القرية العاملون فى هذه المحطة الموجات الحاملة تبسيطاً وتوضيحاً «الحمار»، وحدث أن موجات الحمار هذه وهى ترمح فى الأثير كانت تعفِّر مجالاً كهرومغناطيسياً قوياً يكفى لجعل لمبات النيون المستهلكة، والتى بقى داخلها أقل القليل من بخار الزئبق، تتوهج بدون توصيلات كهربائية، وبدلاً من إلقائها فى القمامة صارت تنهال على القرية من كل صوب للإضاءة بلا ثمن، ومن ثم لعلعت الأضواء ليل نهار حتى فى حقول القرية وحظائرها، وكانت أعجوبة عاينتها بنفسى يوم كنت ولداً جوَّاب الآفاق، وظلت كامنة داخلى بدهشة لأكثر من ثلاثين عاماً حتى صنعت منها قصة فى كتابى «حيوانات أيامنا»، ملخصها أن تواصُل الإضاءة أعطب الساعة الحيوية للبشر والكائنات فاختلط داخلهم الليل بالنهار وهيمن عليهم التوتر والإجهاد المعجون بالأرق، تخربت أمخاخ الحيوانات مع الوقت، ثم انهارت فجأة فى منتصف ليلة عاصفة، واندفعت الحيوانات تركض فى سيل بهيمى أعمى وجارف لتحطيم الأضواء أينما تكون، فتهدمت جسور على الترع، وغرقت سوائم، وتخربت دور وحظائر ودكاكين، وانسحق تحت الأظلاف والحوافر أطفال وبنات وشيوخ لم يسعهم الركض بعيداً عن مسار سيل البهائم الداهم.
كان خراب القرية فى نهاية القصة هو الإضافة الأخطر لنواة الواقع فى تلك الأمثولة الخيالية، وهو خطر أعترف بأننى ربما لم أكن واعياً بحدوده تماماً ولا ظلاله المستقبلية، وأتذكر أن النهاية الكارثية شكَّلت لى ألماً حين كتبتها، وظللت أتنهد تعباً كلما عدت إلى هذه القصة رغم إحكام النهاية لحبكتها، وهى الآن تملؤنى بالرعب، حيث يبدو أن الرسالة المرموزة فى قلبها تتكشف، وأخشى أن واقعنا يشد مضمون هذه الرسالة أو بعض هذا المضمون، الذى أتصوره تحذيراً مما نندفع إليه ببعض ممارسات بعضنا، بحسن نية أو سوئها، ويُشكِّل نوعاً من حصان طروادة لتسلُّل قوى التدمير لحياتنا عبر الغفلة والخداع، أو نوعاً من حمير الأثير التى جلبت إلى ليالينا أضواء عبثة فى غير مكانها وزمانها، فهى معاول هدم وتخريب وإظلام من حيث لا تدرى!
قناعتى أن ثورة 25 يناير كانت فعلاً حضارياً مصرياً عظيماً ضد همجية مُقنَّعة تدنى إليها نظام مبارك، ثم جاءت ثورة 30 يونيو بدعم الجيش الوطنى واستعادة الشرطة الوطنية فعلاً حضارياً عظيماً تالياً ضد همجية جماعة حكمت فتصرفت كعصابة أجلاف أجهضوا الفعل الحضارى للثورة الأولى. والآن وضح أن تلك الجماعة فى محاولاتها الفاشلة واليائسة لاستعادة حكم ضيَّعته بجدارة، أمعنت وتمعن فى همجيتها التى لم توافر رداءة إلا ومارستها، بذاتها أو من خلال أنصارها الأكثر دموية وبدعم من قوى تآمر خارجية سافلة. ولأنه لا يصح إلا الصحيح، فإن هذه الهمجية لا يجوز مواجهتها بهمجية مضادة، مهما ادَّعت الأخيرة أنها فى صف الثورة. فلا ثورة تُرسِّخ نجاحها إلا بالحفاظ على ضميرها الحضارى. الفضائحية فى بعض الممارسات الإعلامية، وصيحات المطالبة الغوغائية بالإعدام، ومهاجمة الممتلكات الخاصة للخصوم مهما كانوا، أمثلة للهمجية المضادة لابد من لجمها تحصيناً للثورة.
ونعم للدستور أياً كانت الملاحظات عليه، ليس فقط لأنه خطوة على خارطة الطريق، بل خطوة تقطع الطريق على عودة الهمجية الأساس. وسنة جديدة سعيدة، يا رب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق